صمت العذاب
مشرفة قسم الرياضيات للصف الحادي عشر والثاني عشر::
الرهان
للكاتب الروسي أنطوان تشيكوف"1860-1904"
ترجمة/ حصة إبراهيم العمار
....
الجزء الأول
..
كانت ليلة خريفية ليلا
شرع المصرفي العجوز يذرع باب غرفة مكتبه جيئة وذهابا
مستعيدا في خياله رجع ذكرى لحفلة أقامها ذات ليلة خريفيه منذ خمس عشرة سنة مضت وتولت ..
يومها كان المكان يعجُّ بجمع غفير من العلماء والباحثين والمثقفين ودار الحديث الماتع فيما دار حول عقوبة الإعدام .. فأنقسم المدعوون بين معارض ومؤيد وتمنى نفر منهم إبدالها بعقوبة السحن المؤبد...
"_ لا أستطيع أن أوافقكم الرأي في ذلك- فال المضيف-لم يحكم علي من قبل-ولله الحمد-على إني لو خيرت بينهما لاخترت عقوبة الإعدام فهي أجدى وأرحم .. أن الإعدام يستل روحك فوراً .. أما السجن المؤبد فيمتص منك رحيق الحياة شيئاً فشيئا"ً ..
"_ كلاهما تخدمان الغرض ذاته ! إلحاقك بأصحاب القبور" .. قال أحدهم
ومن بين المدعوين كان محام شاب لم يتجاوز أسوار الخامسة والعشرين بعد ... طُلب منه أن يدلي بدلوه فقال:
"كلتا العقوبتين في القسوة سواء على إني لو خُيرت لاخترت السجن المؤبد دون تردد .. أعتقد أن التعلق بأهداب الحياة هو خير من ظلام اللحود "...
ودار على أثر ذلك جدل عميق فقد المصرفي_الذي كان آنذاك أنضر شباباً وأكثر تحمساً وميلاً إلى الغضب_أعصابه على إثره فضرب المنضدة بقبضته بشدة وألتفت إلى المحامي الشاب مغضباً قبل أن يصيح به :
-"هراء وكذب أراهنك-بمليوني"روبل" أنك لن تستطيع البقاء في زنزانة حتى ولو لخمس سنوات"!
"-أن كنت تعني ما تقول حقاً فأراهن أن باستطاعتي لا لخمس سنوات وإنما لخمس عشرة سنه
-"خمسة عشرة عاماً! قبلت أشهدكم يا سادة مليونان عداً ونقداً وأيم الله"
"-اتفقنا أذن تراهن بمالك وأراهن بدوري بحريتي"!
قال المحامي مبادلاً إياه تحدياً بتحدٍ وهكذا أبرم ذاك الرهان السخيف ... الطائش.. المسعور!
وطرب ليلتها ذاك المصرفي فقد كانت دماؤه تمور بطيش الشباب وهوس التحدي فيما كانت ملايينه لا تعدّ ولا تححياتك. في تهكم :
"-عد إلى صوابك وثب إلى رشدك قبل فوات الأوان أيها الشاب!"
أن فقدان مليوني"روبل" سوف لن يضيرني شيئاً أما أنت فستهدر من عمرك ثلاثة أعوام أو أربعة هي أجمل سني حياتك ... وأقول ثلاثة أو أربعة لأني على يقين من أنك لن تصمد أكثر من ذلك... ثم...ثم تذكر أن السجن التطوعي هو أشد من الإلزامي وأصعب....أيها الشقي التعيس... أن التفكير في كونك قادراً على مغادرة السجن أنى شئت سيظل هاجساً يطاردك ليل نهار ليسمم حياتك فلا يقر لك تباعاً أي قرار.."
تذكر المصرفي العجوز كل ذلك وهو يذرع الغرفة جيئة وذهاباً فسأل في مرارة نفسه:
"-أي فائدة تجنى من إبرام ذلك الرهان يا ترى؟ .. يفقد المحامي من عمره خمسة عشرعاماً فيما ينقص من مالي مليونان هل سيقتنع الناس جراء ذلك بجدوى الإعدام؟ .. وبأنه خير أو شر من عقوبة السجن المؤبد...كلا...محض هراء ذلك الأمر برمته..... كان ذلك غروراً وكبرياء مني وعشقاً للأصفر الرنان من طرف المحامي!"
وطفق المصرفي يجتر الذكريات.... مستعيداً ما حدث بعد انتهاء تلك الحفلة المشؤومه فقد تقرر سجن المحامي في حديقة أحد أجنحة قصر المصرفي وفي ظل حراسة مشدده تحت سمع المصرفي ذاته وبصره .. كما نص الاتفاق على أن يمنع السجين إبّان ذلك من تجاوز أعتاب المنزل أو رؤية الناس ناهيك عن سماع أصواتهم .. كما حرم عليه تلقي الصحف والرسائل وتأليف الكتب وأخيراً وليس آخراً فقد أُجيزت له المشروبات والتبغ بأنواعه! وأتاحت له تلك الأتفاقيه الاتصال الصامت بالعالم الخارجي عبر نافذة صغيره صُمّمت خصيصاً لذلك وكان بإمكانه الحصول على كل ما يطلبه -ضمن دائرة المسموحات-متى أراد وذلك بإرفاق طلب صغير خطي بذلك عبر النافذة .
كانت الأتفاقيه المبرمة قد راعت كل صغيره وكبيره حتى صيرت من سجنه حبساً انفراديا بحتاً لمدة خمس عشرة سنه يبدأ من الساعة الثانية عشر ليوم الرابع من شهر نوفمبر عام سبعين وثمانمائة وألف"1870"وينتهي الساعة الثانية عشر من شهر نوفمبر لعام خمسة وثمانين وثمانمائة وألف"1885"ونصت الأتفاقيه على أن أي محاولة لمخالفة ذلك حتى وأن تمثلت في هروب السجين قبل الموعد المضروب بدقيقتين ... ستجعل المصرفي في حِلُّ من دفع المبلغ المتفق عليه..
الجزء الثاني ..
خلال سنته الأولى في السجن عانى المحامي كثيراً من مآسي الوحده والملل .. بدأ ذلك جليّاً عبر ماكان يدونه من مذكرات .. وكان صوت البيانو ينساب في هدوء من جناحه ليل نهار .. ورفض أستقبال التبغ والشراب إذ أن الأخير كما كتب يثير الرغبات..عدو السجين الاكبر .. أما التبغ فقد كان دخانه يلوث أجواء الغرفه .. وأستمر وصول الكتب ذات الطابع الخفيف إليه .. روايات غراميه وقصص حربيه وأخرى كوميديه .. في السنه الثانيه توقف البيانو فلم يُعد يُسمع وأكتفى السجين بقراءة روائع الأدب العالمي .. أما في السنه الخامسه فتسلّل صوت البيانو إلى الأسماع مجدداً وطلب السجين بعض المشروبات وقال عنه من راقبه عن كثب بأنه أمضى معظم ذلك العام في تناول الطعام والشراب وفي الأسترخاء على أريكته ... وماأكثر ماتثاءب وتحدث بغضب إلى نفسه وكان يستيقظ في بعض الأحيان ليلاً فيكتب ويكتب ثم هو يستيقظ في الصباح فيمزق مادوّن .. وكان يُسمع في بعض الأوقات ... منتحباً !...
في النصف الآخر من السنه السادسة , عكف السجين على دراسة اللغات والفلسفه والتأريخ بحماس إلى حدًَّ استعصى معه على المصرفي تزويده بما يطلبه من كتب حول ذلك ... وفي بحر أربع سنوات تم-بناءً على طلبه-شراء مايقرب من ستمائة مجلد له .. وفي خضم ذلك الشغف بعث بخطاب إلى المصرفي جاء فيه :
سجاني العزيز :
تصلك أسطري هذه بلغات ست .. وإني لآمل أن تعرضها على ذوي الأختصاص من الخبراء فأن أجمعوا على خلوها من أي خطأ .. فإني آمل أن تأمر بإطلاق رصاصة أستدل بها على صحة توجهي وأن جهودي لم تذهب أدراج الرياح .. لقد تحدث عباقرة الكون بألسنة شتى لكن اللهب ذاته كان يتأجج في ذواتهم طرّاً .. ليتك سيدي تدرك أي سعادة جمة تحتويني بعد أن صار بإمكاني معرفة مايقولون وفهم مايكتبون !
وكان للسجين ماأراد .. رددت جنبات الحديقه صدى مدوياً لعيارين ناريين أُطلقا إنفاذاً لتوجيهات المصرفي!
بعد السنة العاشرة عكف السجين على قراءة الكتب الدينيه وتأريخ الأديان .. أما في العاميين الأخيرين له في السجن فقد أنكب على قراءة كمّ هائل من الكتب في شتى فنون المعرفة .. شد ماشغف بالعلوم الطبيعية يبحر في خضمها الساحر ثم يعرج على روائع"بايرون"و"شكسبير".. وكثيراً مابعث بطلب خطي لتزويده بكتب الكيمياء والطب والفلسفه.. وكان أمره في القراءة عجيباً .. إذ أن الكتب بالنسبة له شادت قطع الخشب المتناثرة على صفحة اليمّ يهرع إليها الغريق في لهفة من يأمل في النجاة من ذلك البحر اللجي .. فيجمعها قطعة قطعة واللهاث يمزق رئتيه ...
استعاد المصرفي كل تلك الجزيئات في ذاكرته وفكر :
"-غداً في الساعة الثانية عشرة سيغادر السجين سجنه وسيكون لزاماً علي أن أفي بعهدي فأدفع له المليونيين عندها سأهوي إلى قرار الأفلاس!"
الجزء الثالث ..
وغشت سحابة من الهم والكدر محياه إذ تذكر أنه كان يعد ملايينه فيما مضى من سنيّ عمره أما في حاضره ذاك فقد كان يتساءل بحسرة عما إذا كان عد ديونه فقد فاق حساب رصيده!
أضاع القمار والتهور وقاعات البورصة ماجمعه مستدرجاً إياه إلى الخراب والدمار ليحوله بذلك من ثري فخور واثق الخطوة غير هياب ولا وجل إلى مصرفي عادي يرتعد فرقا لدى كل انخفاض في السوق أو ارتفاع ..
-"ذلك الرهان المشؤوم"!.... تمتم العجوز ممسكاً برأسه في يأس وألم
"-لماذا لم يمت ذلك الرجل؟"
ماجاوز الأربعين.... لقد بلغ أشده وسيضع يده على كل ماأملك.. فيتزوج ويضارب بمالي في ردهات البورصة أما أنا فسأظل أرنو إليه في حسد ولهفة متسول مسكين ولسوف تطرق مسمعي ذات الكلمات كل يوم " أنا مدين لك بما اجتمع لي من ثروة وسعادة دعني أنفحك شيئاً!" .. كلا هذا لايُطاق!"-قال المصرفي في كمد-"لن ينقذني من ظلمة الفقر والعار إلا موت السجين" !!
كان الجميع نياماً عندما دقت الساعة معلنة الثالثة .... وأصاخ المصرفي السمع فما تسلل إلى أذنيه سوى ذلك النحيب الؤلم لأشجار الخريف وقد جمدها الصقيع فهي تئن كلما داعب النسيم مكامن الشجن في أوتارها .. عندها هب واقفاً ثم تسلل إلى خزينته فأخرج منها مفتاح السجن الذي مامسته يد منذ خمسة عشر عاماً ثم ارتدى معطفه وخرج..
كانت الحديقة باردة مظلمة والمطر ينهمر بشدة فيما هبت موجة أقضّت مضاجع الأشجار مجدداً ... وفرك المصرفي عينيه فما تبين في خضم الحلكة شيئاً .. ولما حاذى جناح السجين هتف باسم الحارس مرتين ولما لم يجب أدرك أنه قد وجد في المطبخ أو الحديقة المغطاة ملجأ من الماء المنهمر
"-لو واتتني القدرة على تنفيذ مخططي لاتجهت أصابع الاتهام إلى الحارس دون شك"
وتلمس المصرفي العجوز طريقه في خضم بحر الظلمات حتى ارتقى درجات العتبه المفضية إلى جناح السجين ثم وصل إلى ممر ضيق فأشعل عود ثقاب وألقى على غرفة الحارس نظرة فإذا هي خالية إلا من سرير وموقد ... أما الأختام الموضوعة على مدخل باب السجين فكانت كما هي منذ وضعت وعندما خبا وهج عود الثقاب هز الانفعال جسد المصرفي وهو يسترق النظر عبر نافذة السجين الصغيرة"
في غرفة المحامي كان ثمة شمعة واهنة تحترق ببطء وكان هو جالساً وظهره إلى مسترق النظر مابدا منه سوى شعر رأسه ويديه.. وعلى المنضدة والكراسي والسجادة انتشرت كتب مقلوبة كثيرة .. خمس دقائق مرت دون أن يُبدي السجين حراكاً! .. علمته سنوات السجن الطويلة أن يجلس كالتمثال دون حراك.. وطرق المصرفي النافذة بإصبعه فلم يحرك ساكناً.. عندها فضّ الأول أختام الباب قبل أن يدير المفتاح في القفل وأحدث القفل الصدي صرصرة مزعجة ثم سمع صرير الباب وهو يفتح! ... وتوقع المصرفي أن يهب السجين من مكانه لفرط المفاجأة.. فيصرخ في ذهول ... لكن دقائق ثلاث مرت دون أن يطرأ على السكون الموغل في تجاويف الغرفة أي تغيير.. فعقد العزم على الدخول ..
أمام المنضدة جلس رجل غريب الهيئة.. فكأنما ودع منذ أزل عالم البشر .. كان هيكلاً عظمياً.. رق جلده حتى شفّ عما تحته أو كاد.. كان له شعر طويل أجعد كشعر النساء.. ولحية مغبرة شعثاء..أما لون وجهه فحاكى صفار التربة.. فيما غار خداه.. وتأمل ظهره فهاله مابدا عليه من طول ونحول .. وتلك اليد التي أسند عليها رأساً مشعراً.. لكم كانت تبعث على البكاء!.. كان مجرد النظر إليها يحرك في الذات أقسى مشاعر الشفقة والألم.. ووخط الشيب هامته.. تسللت خيوط الكفن البيضاء حتى كان معظمه حتى لم يعد يصدق من يراه أن ذلك الشبح الواهن لما يزل في بحر الأربعين.. وتحت اليد المنثنية على المنضدة كانت هناك ورقة دُوّن بها شئ ما ..
"-ياللشرير التعس! أنه الآن يحلّق مع أطياف الكرى حالماً بما سيصنعه فور تلقيه المبلغ المتفق عليه.... ليس لي الآن سوى حمل هذا الجسد شبه الميت لألقي به فوق سريره قبل أن أطبق عليه بيدي ولن تظهر أدق التحقيقات أي أثر لوفاة غير طبيعية ولكن دعني قبل هذا أن أقرأ ماكتبه هنا"!
ا
للكاتب الروسي أنطوان تشيكوف"1860-1904"
ترجمة/ حصة إبراهيم العمار
....
الجزء الأول
..
كانت ليلة خريفية ليلا
شرع المصرفي العجوز يذرع باب غرفة مكتبه جيئة وذهابا
مستعيدا في خياله رجع ذكرى لحفلة أقامها ذات ليلة خريفيه منذ خمس عشرة سنة مضت وتولت ..
يومها كان المكان يعجُّ بجمع غفير من العلماء والباحثين والمثقفين ودار الحديث الماتع فيما دار حول عقوبة الإعدام .. فأنقسم المدعوون بين معارض ومؤيد وتمنى نفر منهم إبدالها بعقوبة السحن المؤبد...
"_ لا أستطيع أن أوافقكم الرأي في ذلك- فال المضيف-لم يحكم علي من قبل-ولله الحمد-على إني لو خيرت بينهما لاخترت عقوبة الإعدام فهي أجدى وأرحم .. أن الإعدام يستل روحك فوراً .. أما السجن المؤبد فيمتص منك رحيق الحياة شيئاً فشيئا"ً ..
"_ كلاهما تخدمان الغرض ذاته ! إلحاقك بأصحاب القبور" .. قال أحدهم
ومن بين المدعوين كان محام شاب لم يتجاوز أسوار الخامسة والعشرين بعد ... طُلب منه أن يدلي بدلوه فقال:
"كلتا العقوبتين في القسوة سواء على إني لو خُيرت لاخترت السجن المؤبد دون تردد .. أعتقد أن التعلق بأهداب الحياة هو خير من ظلام اللحود "...
ودار على أثر ذلك جدل عميق فقد المصرفي_الذي كان آنذاك أنضر شباباً وأكثر تحمساً وميلاً إلى الغضب_أعصابه على إثره فضرب المنضدة بقبضته بشدة وألتفت إلى المحامي الشاب مغضباً قبل أن يصيح به :
-"هراء وكذب أراهنك-بمليوني"روبل" أنك لن تستطيع البقاء في زنزانة حتى ولو لخمس سنوات"!
"-أن كنت تعني ما تقول حقاً فأراهن أن باستطاعتي لا لخمس سنوات وإنما لخمس عشرة سنه
-"خمسة عشرة عاماً! قبلت أشهدكم يا سادة مليونان عداً ونقداً وأيم الله"
"-اتفقنا أذن تراهن بمالك وأراهن بدوري بحريتي"!
قال المحامي مبادلاً إياه تحدياً بتحدٍ وهكذا أبرم ذاك الرهان السخيف ... الطائش.. المسعور!
وطرب ليلتها ذاك المصرفي فقد كانت دماؤه تمور بطيش الشباب وهوس التحدي فيما كانت ملايينه لا تعدّ ولا تححياتك. في تهكم :
"-عد إلى صوابك وثب إلى رشدك قبل فوات الأوان أيها الشاب!"
أن فقدان مليوني"روبل" سوف لن يضيرني شيئاً أما أنت فستهدر من عمرك ثلاثة أعوام أو أربعة هي أجمل سني حياتك ... وأقول ثلاثة أو أربعة لأني على يقين من أنك لن تصمد أكثر من ذلك... ثم...ثم تذكر أن السجن التطوعي هو أشد من الإلزامي وأصعب....أيها الشقي التعيس... أن التفكير في كونك قادراً على مغادرة السجن أنى شئت سيظل هاجساً يطاردك ليل نهار ليسمم حياتك فلا يقر لك تباعاً أي قرار.."
تذكر المصرفي العجوز كل ذلك وهو يذرع الغرفة جيئة وذهاباً فسأل في مرارة نفسه:
"-أي فائدة تجنى من إبرام ذلك الرهان يا ترى؟ .. يفقد المحامي من عمره خمسة عشرعاماً فيما ينقص من مالي مليونان هل سيقتنع الناس جراء ذلك بجدوى الإعدام؟ .. وبأنه خير أو شر من عقوبة السجن المؤبد...كلا...محض هراء ذلك الأمر برمته..... كان ذلك غروراً وكبرياء مني وعشقاً للأصفر الرنان من طرف المحامي!"
وطفق المصرفي يجتر الذكريات.... مستعيداً ما حدث بعد انتهاء تلك الحفلة المشؤومه فقد تقرر سجن المحامي في حديقة أحد أجنحة قصر المصرفي وفي ظل حراسة مشدده تحت سمع المصرفي ذاته وبصره .. كما نص الاتفاق على أن يمنع السجين إبّان ذلك من تجاوز أعتاب المنزل أو رؤية الناس ناهيك عن سماع أصواتهم .. كما حرم عليه تلقي الصحف والرسائل وتأليف الكتب وأخيراً وليس آخراً فقد أُجيزت له المشروبات والتبغ بأنواعه! وأتاحت له تلك الأتفاقيه الاتصال الصامت بالعالم الخارجي عبر نافذة صغيره صُمّمت خصيصاً لذلك وكان بإمكانه الحصول على كل ما يطلبه -ضمن دائرة المسموحات-متى أراد وذلك بإرفاق طلب صغير خطي بذلك عبر النافذة .
كانت الأتفاقيه المبرمة قد راعت كل صغيره وكبيره حتى صيرت من سجنه حبساً انفراديا بحتاً لمدة خمس عشرة سنه يبدأ من الساعة الثانية عشر ليوم الرابع من شهر نوفمبر عام سبعين وثمانمائة وألف"1870"وينتهي الساعة الثانية عشر من شهر نوفمبر لعام خمسة وثمانين وثمانمائة وألف"1885"ونصت الأتفاقيه على أن أي محاولة لمخالفة ذلك حتى وأن تمثلت في هروب السجين قبل الموعد المضروب بدقيقتين ... ستجعل المصرفي في حِلُّ من دفع المبلغ المتفق عليه..
الجزء الثاني ..
خلال سنته الأولى في السجن عانى المحامي كثيراً من مآسي الوحده والملل .. بدأ ذلك جليّاً عبر ماكان يدونه من مذكرات .. وكان صوت البيانو ينساب في هدوء من جناحه ليل نهار .. ورفض أستقبال التبغ والشراب إذ أن الأخير كما كتب يثير الرغبات..عدو السجين الاكبر .. أما التبغ فقد كان دخانه يلوث أجواء الغرفه .. وأستمر وصول الكتب ذات الطابع الخفيف إليه .. روايات غراميه وقصص حربيه وأخرى كوميديه .. في السنه الثانيه توقف البيانو فلم يُعد يُسمع وأكتفى السجين بقراءة روائع الأدب العالمي .. أما في السنه الخامسه فتسلّل صوت البيانو إلى الأسماع مجدداً وطلب السجين بعض المشروبات وقال عنه من راقبه عن كثب بأنه أمضى معظم ذلك العام في تناول الطعام والشراب وفي الأسترخاء على أريكته ... وماأكثر ماتثاءب وتحدث بغضب إلى نفسه وكان يستيقظ في بعض الأحيان ليلاً فيكتب ويكتب ثم هو يستيقظ في الصباح فيمزق مادوّن .. وكان يُسمع في بعض الأوقات ... منتحباً !...
في النصف الآخر من السنه السادسة , عكف السجين على دراسة اللغات والفلسفه والتأريخ بحماس إلى حدًَّ استعصى معه على المصرفي تزويده بما يطلبه من كتب حول ذلك ... وفي بحر أربع سنوات تم-بناءً على طلبه-شراء مايقرب من ستمائة مجلد له .. وفي خضم ذلك الشغف بعث بخطاب إلى المصرفي جاء فيه :
سجاني العزيز :
تصلك أسطري هذه بلغات ست .. وإني لآمل أن تعرضها على ذوي الأختصاص من الخبراء فأن أجمعوا على خلوها من أي خطأ .. فإني آمل أن تأمر بإطلاق رصاصة أستدل بها على صحة توجهي وأن جهودي لم تذهب أدراج الرياح .. لقد تحدث عباقرة الكون بألسنة شتى لكن اللهب ذاته كان يتأجج في ذواتهم طرّاً .. ليتك سيدي تدرك أي سعادة جمة تحتويني بعد أن صار بإمكاني معرفة مايقولون وفهم مايكتبون !
وكان للسجين ماأراد .. رددت جنبات الحديقه صدى مدوياً لعيارين ناريين أُطلقا إنفاذاً لتوجيهات المصرفي!
بعد السنة العاشرة عكف السجين على قراءة الكتب الدينيه وتأريخ الأديان .. أما في العاميين الأخيرين له في السجن فقد أنكب على قراءة كمّ هائل من الكتب في شتى فنون المعرفة .. شد ماشغف بالعلوم الطبيعية يبحر في خضمها الساحر ثم يعرج على روائع"بايرون"و"شكسبير".. وكثيراً مابعث بطلب خطي لتزويده بكتب الكيمياء والطب والفلسفه.. وكان أمره في القراءة عجيباً .. إذ أن الكتب بالنسبة له شادت قطع الخشب المتناثرة على صفحة اليمّ يهرع إليها الغريق في لهفة من يأمل في النجاة من ذلك البحر اللجي .. فيجمعها قطعة قطعة واللهاث يمزق رئتيه ...
استعاد المصرفي كل تلك الجزيئات في ذاكرته وفكر :
"-غداً في الساعة الثانية عشرة سيغادر السجين سجنه وسيكون لزاماً علي أن أفي بعهدي فأدفع له المليونيين عندها سأهوي إلى قرار الأفلاس!"
الجزء الثالث ..
وغشت سحابة من الهم والكدر محياه إذ تذكر أنه كان يعد ملايينه فيما مضى من سنيّ عمره أما في حاضره ذاك فقد كان يتساءل بحسرة عما إذا كان عد ديونه فقد فاق حساب رصيده!
أضاع القمار والتهور وقاعات البورصة ماجمعه مستدرجاً إياه إلى الخراب والدمار ليحوله بذلك من ثري فخور واثق الخطوة غير هياب ولا وجل إلى مصرفي عادي يرتعد فرقا لدى كل انخفاض في السوق أو ارتفاع ..
-"ذلك الرهان المشؤوم"!.... تمتم العجوز ممسكاً برأسه في يأس وألم
"-لماذا لم يمت ذلك الرجل؟"
ماجاوز الأربعين.... لقد بلغ أشده وسيضع يده على كل ماأملك.. فيتزوج ويضارب بمالي في ردهات البورصة أما أنا فسأظل أرنو إليه في حسد ولهفة متسول مسكين ولسوف تطرق مسمعي ذات الكلمات كل يوم " أنا مدين لك بما اجتمع لي من ثروة وسعادة دعني أنفحك شيئاً!" .. كلا هذا لايُطاق!"-قال المصرفي في كمد-"لن ينقذني من ظلمة الفقر والعار إلا موت السجين" !!
كان الجميع نياماً عندما دقت الساعة معلنة الثالثة .... وأصاخ المصرفي السمع فما تسلل إلى أذنيه سوى ذلك النحيب الؤلم لأشجار الخريف وقد جمدها الصقيع فهي تئن كلما داعب النسيم مكامن الشجن في أوتارها .. عندها هب واقفاً ثم تسلل إلى خزينته فأخرج منها مفتاح السجن الذي مامسته يد منذ خمسة عشر عاماً ثم ارتدى معطفه وخرج..
كانت الحديقة باردة مظلمة والمطر ينهمر بشدة فيما هبت موجة أقضّت مضاجع الأشجار مجدداً ... وفرك المصرفي عينيه فما تبين في خضم الحلكة شيئاً .. ولما حاذى جناح السجين هتف باسم الحارس مرتين ولما لم يجب أدرك أنه قد وجد في المطبخ أو الحديقة المغطاة ملجأ من الماء المنهمر
"-لو واتتني القدرة على تنفيذ مخططي لاتجهت أصابع الاتهام إلى الحارس دون شك"
وتلمس المصرفي العجوز طريقه في خضم بحر الظلمات حتى ارتقى درجات العتبه المفضية إلى جناح السجين ثم وصل إلى ممر ضيق فأشعل عود ثقاب وألقى على غرفة الحارس نظرة فإذا هي خالية إلا من سرير وموقد ... أما الأختام الموضوعة على مدخل باب السجين فكانت كما هي منذ وضعت وعندما خبا وهج عود الثقاب هز الانفعال جسد المصرفي وهو يسترق النظر عبر نافذة السجين الصغيرة"
في غرفة المحامي كان ثمة شمعة واهنة تحترق ببطء وكان هو جالساً وظهره إلى مسترق النظر مابدا منه سوى شعر رأسه ويديه.. وعلى المنضدة والكراسي والسجادة انتشرت كتب مقلوبة كثيرة .. خمس دقائق مرت دون أن يُبدي السجين حراكاً! .. علمته سنوات السجن الطويلة أن يجلس كالتمثال دون حراك.. وطرق المصرفي النافذة بإصبعه فلم يحرك ساكناً.. عندها فضّ الأول أختام الباب قبل أن يدير المفتاح في القفل وأحدث القفل الصدي صرصرة مزعجة ثم سمع صرير الباب وهو يفتح! ... وتوقع المصرفي أن يهب السجين من مكانه لفرط المفاجأة.. فيصرخ في ذهول ... لكن دقائق ثلاث مرت دون أن يطرأ على السكون الموغل في تجاويف الغرفة أي تغيير.. فعقد العزم على الدخول ..
أمام المنضدة جلس رجل غريب الهيئة.. فكأنما ودع منذ أزل عالم البشر .. كان هيكلاً عظمياً.. رق جلده حتى شفّ عما تحته أو كاد.. كان له شعر طويل أجعد كشعر النساء.. ولحية مغبرة شعثاء..أما لون وجهه فحاكى صفار التربة.. فيما غار خداه.. وتأمل ظهره فهاله مابدا عليه من طول ونحول .. وتلك اليد التي أسند عليها رأساً مشعراً.. لكم كانت تبعث على البكاء!.. كان مجرد النظر إليها يحرك في الذات أقسى مشاعر الشفقة والألم.. ووخط الشيب هامته.. تسللت خيوط الكفن البيضاء حتى كان معظمه حتى لم يعد يصدق من يراه أن ذلك الشبح الواهن لما يزل في بحر الأربعين.. وتحت اليد المنثنية على المنضدة كانت هناك ورقة دُوّن بها شئ ما ..
"-ياللشرير التعس! أنه الآن يحلّق مع أطياف الكرى حالماً بما سيصنعه فور تلقيه المبلغ المتفق عليه.... ليس لي الآن سوى حمل هذا الجسد شبه الميت لألقي به فوق سريره قبل أن أطبق عليه بيدي ولن تظهر أدق التحقيقات أي أثر لوفاة غير طبيعية ولكن دعني قبل هذا أن أقرأ ماكتبه هنا"!
ا